سورة البقرة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الم} ونظائرها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فالقاف تدل على أول حروف قال، والألف تدل على أوسط حروف قال، واللام تدل على الحرف الأخير منه وكذلك ما أشبهها. والدليل على أنها أسماء أن كلاً منها يدل على معنى في نفسه ويتصرف فيها بالإمالة والتفخيم وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير وهي معربة، وإنما سكنت سكون زيد وغيره من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه. وقيل: إنها مبنية كالأصوات نحو (غاق) في حكاية صوت الغراب، ثم الجمهور على أنها أسماء السورة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم الله بهذه الحروف. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنها اسم الله الأعظم. وقيل: إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. وما سميت معجمة إلا لإعجامها وإبهامها. وقيل: ورود هذه الأسماء على نمط التعديد كالإيقاظ لمن تحدى بالقران. وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا إن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة وهم أمراء الكلام إلا لأنه ليس من كلام البشر وأنه كلام خالق القوى والقدر، وهذا القول من الخلافة بالقبول بمنزل. وقيل: إنما وردت السور مصدرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإغراب وتقدمة من دلائل الإعجاز، وذلك أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام الأميّون منهم وأهل الكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، فكان حكم النطق بذلك من اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن التي لم تكن قريش ومن يضاهيهم في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي وشاهد لصحة نبوته.
واعلم أن المذكور في الفواتح نصف أسامي حروف المعجم وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. وهي مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، فمن المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة نصفها واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء وغير المذكورة من هذه الأجناس مكثورة بالمذكورة منها.
وقد علمت أن معظم الشيء ينزل منزلة كله، فكأن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما مر من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. وإنما جاءت مفرقة على السور لأن إعادة التنبيه على المتحدى به مؤلفاً منها لا غير أوصل إلى الغرض، وكذا كل تكرير ورد في القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر في النفوس وتقريره. ولم تجئ على وتيرة واحدة بل اختلفت أعداد حروفها مثل: ص وق ون وطه وطس ويس وحم والم والر وطسم والمص والمر وكهيعص وحم عسق. فوردت على حرف وحرفين وثلاثة وأربعة وخمسة كعادة افتنانهم في الكلام. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فسلك في الفواتح هذا المسلك. و{الم} آية حيث وقعت، وكذا {المص} آية و{المر} لم تعد آية وكذا {الر} لم تعد آية في سورها الخمس و{طسم} آية في سورتيها و{طه} و{يس} آيتان و{وطس} ليست بآية و{حم} آية في سورها كلها و{حم عسق} آيتان و{كهيعص} آية و{ص} و{ن} و{ق} ثلاثتها لم تعد آية وهذا عند الكوفيين ومن عداهم لم يعد شيئاً منها آية، وهذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور.
ويوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله {الم الله} [آل عمران: 1] أي هذه الم ثم ابتدأ فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} [آل عمران: 1] ولهذه الفواتح محل من الإعراب فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام وهو الرفع على الابتداء، أو النصب أو الجر لصحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه كما لا محل للجملة المبتدأة وللمفردات المعدودة.
{ذلك الكتاب} أي ذلك الكتاب الذي وعد به على لسان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو {ذلك} إشارة إلى {الم}، وإنما ذكّر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة، لأن الكتاب إن كان خبره كان ذلك في معناه ومسماه مسماه فجاز إجراء حكمه عليه بالتذكير والتأنيث، وإن كان صفته فالإشارة به إلى الكتاب صريحاً لأن اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له، تقول: هند ذلك الإنسان أو ذلك الشخص فعل كذا، ووجه تأليف ذلك الكتاب مع {الم} إن جعلت {الم} إسماً للسورة أن يكون {الم} مبتدأ و{ذلك} مبتدأ ثانياً و{الكتاب} خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص كما تقول: هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون {الم} خبر مبتدأ محذوف أي هذه {الم} جملة {وذلك الكتاب} جملة أخرى، وإن جعلت {الم} بمنزلة الصوت كان {ذلك} مبتدأ خبره {الكتاب} أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل.
{لاَ رَيْبَ} لا شك وهو مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ومنه قوله عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة» أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير لأن المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه لا أن أحداً لا يرتاب، وإنما لم يقل {لا فيه ريب} كما قال: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] لأن والمراد في إيلاء الريب حرف النفي نفي الريب عنه وإثبات أنه حق لا باطل كما يزعم الكفار، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً آخر فيه ريب لا فيه كما قصد في قوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47]، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي. والوقف على {فيه} هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وقفاً على {ريب}. ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً والتقدير: لا ريب فيه.
{فِيهِ هُدًى} فيه بإشباع كل هاء مكي ووافقه حفص في {فيه مهاناً} [الفرقان: 69] وهو الأصل كقولك مررت به ومن عنده وفي داره. وكما لا يقال في داره ومن عنده وجب أن لا يقال فيه. وقال سيبويه ما قاله مؤد إلى الجمع بين ثلاثة أحرف سواكن: الياء قبل الهاء، والهاء إذاً الهاء المتحركة في كلامهم بمنزلة الساكنة لأنها الهاء خفية والخفي قريب من الساكن، والياء بعدها. والهدى مصدر على فعل كالبكي وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] وإنما قيل هدى {لّلْمُتَّقِينَ} والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم: أعزك الله وأكرمك، تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله: {اهدنا الصراط المستقيم}، أو لأنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام: «من قتل قتيلاً فله سلبه» وقول ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض، فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلاً ومريضاً. ولم يقل: هدى للضالين. لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل {هدى للمتقين} مع أن فيه تصديراً للسورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء الله. والمتقى في اللغة اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتقى، ففاؤها واو ولامها ياء، وإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى. والوقاية فرط الصيانة، وفي الشريعة من يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. ومحل {هدى} الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع {لا ريب فيه} لذلك، أو النصب على الحال من الهاء في {فيه} والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يقال: إن قوله {الم} جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و{ذلك الكتاب} جملة ثانية، و{لا ريب فيه} ثالثة، و{هدى للمتقين} رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلاً بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لعالم: فيم لذتك؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحاً وفي شبهة تتضاءل افتضاهاً. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إن المطلوب بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو {هدى} موضع الوصف الذي هو (هاد) كأن نفسه هداية وإيراده منكراً ففيه إشعار بأنه هدى لا يكتنه كنهه. والإيجاز في ذكر المتقين كما مر.
{الذين} في موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعني الذين يؤمنون، أو هو مبتدأ وخبره {أولئك على هدى}، أو جر على أنه صفة للمتقين، وهي صفة واردة بياناً وكشفاً للمتقين كقولك (زيد الفقيه) المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات، والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما، ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين، أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك: زيد الفقيه المتكلم الطبيب، ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيئات {يُؤْمِنُونَ} يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم: آمنه أي صدقه وحقيقته أمنه التكذيب والمخالفة، وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف.
{بالغيب} بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك، فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك (غاب الشيء غيباً). هذا إن جعلته صلة للإيمان، وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيبة، والإيمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الإيمان. {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها، أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه، أو الدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه، والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى حرك الصلوين أي الأليتين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. وقيل للداعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد {وَمِمَّا َرَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم. و(ما) بمعنى (الذي) {يُنفِقُونَ} يتصدقون. أدخل (من) التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهي عنه وقدم المفعول دلالة على كونه أهم والمراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها أو هي غيرها من النفقات في سبل الخير لمجيئه مطلقاً، وأنفق الشيء وأنفده أخوان كنفق الشيء ونفد، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب. ودلت الآية على أن الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصلاة والزكاة على الإيمان والعطف يتقضي المغايرة.
{والذين يُؤْمِنُونَ} هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات، ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين، وإن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكأنه قيل: هدى للمتقين، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك، أو المراد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك: هو الشجاع والجواد، وقوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه {بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ} يعني القرآن المراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم، لأنه الإيمان بالجميع واجب. وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد، ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل. {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يعني سائرالكتب المنزلة على النبيين عليهم الصلاة والسلام {وبالآخرة} وهي تأنيث الآخر الذي هو ضد الأول وهي صفة والموصوف محذوف وهو الدار بدليل قوله: {تِلْكَ الدار الآخرة} [القصص: 83] وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا. وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام. {هُمْ يُوقِنُونَ} الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. {أولئك على هُدًى} الجملة في موضع الرفع إن كان {الذين يؤمنون بالغيب} مبتدأ وإلا فلا محمل لها، ويجوز أن يجري الموصول الأول على {المتقين} وأن يرتفع الثاني على الإبتداء و{أولئك} خبره، ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله. ومعنى الاستعلاء في {على هدى} مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونحوه (هو على الحق وعلى الباطل) وقد صرحوا بذلك في قولهم: جعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل، واقتعد غارب الهوى. ومعنى هدى {مّن رَّبّهِمُ} أي أوتوه من عنده. ونكر {هدى} ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه (لقد وقعت على لحم) أي على لحم عظيم.
{وأولئك هُمْ المفلحون} أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا؛ فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو (فلق وفلز وفلى)، وجاء العطف هنا بخلاف قوله: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179] لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثمّ، فكانت الثانية مقررة للأولى فهي من العطف بمعزل، وهم فصل.
وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره، أو هو مبتدأ و{المفلحون} خبره، والجملة خبر {أولئك} فانظر كيف قرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره، ففيه تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح. وتعريف المفلحون ففيه دلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل: زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته. وتوسيط الفصل بينه وبين {أولئك} ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا. اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة [الآيتان: 6، 7].
لما قدم ذكر أوليائه بصفاتهم المقربة إليه، وبيَّن أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى بقوله:


{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} الكفر ستر الحق بالجحود، والتركيب دال على الستر ولذا سمي الزراع كافراً وكذا الليل. ولم يأت بالعاطف هنا كما في قوله: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} [الأنفطار: 13، 14] لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بياناً لذكر الكتاب لا خبراً عن المؤمنين وسيقت الثانية للإخبار عن الكفار بكذا، فبين الجملتين تفاوت في المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه، ولئن كان مبتدأ على تقرير فهو كالجاري عليه، والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} بهمزتين كوفي، وسواء بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى: {إلى كَلِمَةٍ سَوَاء} [آل عمران: 64]، أي مستوية، وارتفاعه على أنه خبر لإن و{أأنذرتهم أم لم تنذرهم} مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه. أو يكون {سواء} خبراً مقدماً و{أأنذرتهم أم لم تنذرهم} في موضع الابتداء أي سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر ل {إن} وإنما جاز الإخبار عن الفعل مع أنه خبر أبداً لأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى. والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: (اللهم اغفر لنا أيتها العصابة) يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما جرى ذلك على صورة النداء ولا نداء. والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر على المعاصي {لاَ يُؤْمِنُونَ} جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر ل (إن)، والجملة قبلها اعتراض أو خبر بعد خبر. والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وليكون الإرسال عاماً وليثاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} قال الزجاج: الختم التغطية لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه. وقال ابن عباس: طبع الله على قلوبهم فلا يعقلون الخير. يعني أن الله طبع عليها فجعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان. وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه. وعند المعتزلة أعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير. وقال بعضهم: إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز والخاتم في الحقيقة الكافر، إلا أنه تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال: بنى الأمير المدينة، لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له، فإسناده إلى الفاعل حقيقة.
وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازاً لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له إسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال {وعلى سَمْعِهِمْ} وحد السمع كما وحد البطن في قوله:
كلوا من بعض بطنكم تعفوا ***
لأمن اللبس ولأن السمع مصدر في أصله يقال: سمعت الشيء سمعاً وسماعاً، والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير فلا يحتاج فيه إلى التثنية والجمع فلمح الأصل. وقيل: المضاف محذوف أي وعلى مواضع سمعهم وقرئ: {وعلى أسماعهم}. {وعلى أبصارهم غشاوة} بالرفع خبر ومبتدأ، والبصر: نور العين وهو ما يبصر به الرائي، كما أن البصيرة نور القلب وهي ما به يستبصر ويتأمل وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار. والغشاوة: الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة والقلادة. والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية لقوله: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} [الجاثية: 23]، ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. ونصب المفضل وحده غشاوة بإضمار {جعل} وتكرير الجار في قوله {وعلى سمعهم} دليل على شدة الختم في الموضعين. قال الشيخ الإمام أبو منصور بن علي رحمه الله: الكافر لما لم يسمع قول الحق ولم ينظر في نفسه وفي غيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث فيعلم أن لا بد من صانع، جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة، وإن لم يكن ذلك حقيقة وهذا دليل على أن الأسماع عنده داخلة في حكم التغشية. والآية حجة لنا على المعتزلة في الأصلح فإنه أخبر أنه ختم على قلوبهم ولا شك أن ترك الختم أصلح لهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه، والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثة والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من التغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلا الله.
{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر} افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين قلوباً وألسنة، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاءً وخداعاً ولذا نزل فيهم: {إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] وقال مجاهد: أربع آيات من أول السورة في نعت المؤمنين، وآيتان في ذكر الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين، نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً وحذفها كاللازم مع لام التعريف لا يكاد يقال الأناس ويشهد لأصله إنسان وأناسي وإنس، وسموا به لظهروهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين، وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صفة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا. وإنما خصوا الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، وإنما سمي بالآخر لتأخره عن الأوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنهم أوهموا في هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه، ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة. وفي تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. وإنما طابق قوله {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وهو في ذكر شأن الفاعل لا الفعل، قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهو في ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد إنكار ما ادعوه ونفيه على أبلغ وجه وآكده وهو إخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من المؤمنين، ونحوه قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} [المائدة: 37]، فهو أبلغ من قولك (وما يخرجون منها). وأطلق الإيمان في الثاني بعد تقييده في الأول لأنه يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، ويحتمل أن يراد نفي أصل الإيمان وفي ضمنه نفي المذكور أولاً. والآية تنفي قول الكرامية: إن الإيمان هو الإقرار باللسان لا غير لأنه نفى عنهم اسم الإيمان مع وجود الإقرار منهم، وتؤيد قول أهل السنة إنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان. ودخلت الباء في خبر (ما) مؤكدة للنفي لأنه يستدل به السامع على الجحد إذا غفل عن أول الكلام، ومن موحد اللفظ فلذا قيل يقول وجمع {وما هم بمؤمنين} نظراً إلى معناه.
{يخادعون الله} أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذف المضاف كقوله {واسئل القرية} [يوسف: 82] كذا قاله أبو علي رحمه الله وغيره، أي يظهرون غير ما في أنفسهم.
فالخداع إظهار غير ما في النفس، وقد رفع الله منزلة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وقيل: معناه يخادعون الله في زعمهم لأنهم يظنون أن الله ممن يصح خداعه، وهذا المثال يقع كثيراً لغير اثنين نحو قولك (عاقبت اللص). وقد قرئ: {يخدعون الله} وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين وما منفعتهم في ذلك؟ قيل: يخادعون الله، ومنفعتهم في ذلك متاركتهم عن المحاربة التي كانت مع من سواهم من الكفار وإجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك. قال صاحب الوقوف: الوقف لازم على {بمؤمنين} لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمنين مخادعين فينتفي الوصل كقولك (ما هو برجل كاذب) والمراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم. ومن جعل {يخادعون} حالاً من الضمير في يقول والعامل فيها {يقول} والتقدير يقول آمنا بالله مخادعين أو حالاً من الضمير في {بمؤمنين} والعامل فيها اسم الفاعل والتقدير وما هم بمؤمنين في حال خداعهم لا يقف والوجه الأول: {والذين ءامَنُواْ} أي يخادعون رسول الله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإضمار الكفر. {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأن ضررها يلحقهم. وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم وما يخادعون. أبو عمرو ونافع ومكي للمطابقة وعذر الأولين أن خدع وخادع هنا بمعنى واحد، والنفس ذات الشيء وحقيقته. ثم قيل للقلب والروح النفس لأن النفس بهما، وللدم نفس لأن قوامها بالدم، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم. {وَمَا يَشْعُرُونَ} أن حاصل خداعهم يرجع إليهم والشعور علم الشيء علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس وهم، لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
{فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد. في الحديث: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين» والمريض متردد بين الحياة والموت، ولأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسماً لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب. {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} أي ضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن الاقتدار. وقيل: المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف في زيادة الإيمان. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} كوفي. أي بكذبهم في قولهم: {آمنا بالله وباليوم الآخر}، فما مع الفعل بمعنى المصدر، والكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به يكذبون غيرهم أي بتكذيبهم النبي عليه السلام فيما جاء به. وقيل: هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق ونظيرهما بان الشيء وبين.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} معطوف على {يكذبون} ويجوز أن يعطف على {يقول آمنا} لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} لكان صحيحاً، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، وكان فساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم. {قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} بين المؤمنين والكافرين بالمداراة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد، لأن {إنما} لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك (إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب) و(ما) كافة لأنها تكفها عن العمل. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} أنهم مفسدون فحذف المفعول للعمل به. {ألا} مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر} [القيامة: 40]، ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف، وما في {ألا} و(إن) من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله {لا يشعرون}.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ الناس قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} نصحوهم من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد، وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسَدَََّ من اتباع ذوي الأحلام، فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. وإنما صح إسناد {قيل} إلى {لا تفسدوا} و{آمنوا} مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح، لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب. و(ما) في كما كافة في {ربما}، أو مصدرية كما في {بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 25] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم، والكاف في {كما} في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء.
والاستفهام في {أنؤمن} للإنكار، في {السفهاء} مشار بها إلى الناس، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} أنهم هم السفهاء. وإنما ذكر هنا {لا يعلمون} وفيما تقدم {لا يشعرون} لأنه قد ذكر السفه وهوجهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس. والسفهاء خبر (إن) و{هم} فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبر (إن).
{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا} وقرأ أبو حنيفة رحمه الله {وإذا لاقوا} يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه. الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم. {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى. وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود. وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم (تشيطن)، وعنه أنها زائدة واشتقاقه من (شطن) إذا بعد لبعده من الصلاح والخير، أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل. {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. وإنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة ب (إن) لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار. وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد. وقوله {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} تأكيد لقوله {إنا معكم} لأن معناه الثبات على اليهودية، وقوله {إنما نحن مستهزئون} رد للإسلام ودفع لهم منهم لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استنئاف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون. والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات على المكان.
{الله يَسْتَهْزِئ بِهِمُ} أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40]. {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء، وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه. قال الزجاج: هو الوجه المختار. واستئناف قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان. ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل {الله يستهزئ بهم} ولم يقل الله مستهزئ بهم ليكون طبقاً لقوله {إنما نحن مستهزؤون} {وَيَمُدُّهُمْ} أي يمهلهم عن الزجاج {فِي طغيانهم} في غلوهم في كفرهم {يَعْمَهُونَ} حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح. {أولئك} مبتدأ خبره. {الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي استبدلوها به واختاروها عليه. وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم كفروا به، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به. والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. {فَمَا رَبِحَت تجارتهم} الربح الفضل على رأس المال، والتجارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحاً له كقوله:
ولما رأيت النسر عز ابن دأية *** وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر. {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر. والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح. وقيل: {الذين} صفة {أولئك} و{فما ربحت تجارتهم} إلى آخر الآية في محل رفع خبر {أولئك}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8